أعلنت الحكومة البريطانية في فبراير 2020 أنها سوف تبدأ في تقنين محتوى الانترنت الضار وذلك عبر إجبار الشركات التقنية على اتباع القوانين التي تهدف إلى حماية مستخدمي الإنترنت في المملكة المتحدة.
سوف يقوم مكتب الاتصال التابع للحكومة والذي يسمى Ofcom، بتولي مهمة وضع التشريعات التي يرون أنها مضرة بمستخدمي الإنترنت؟ وسوف تشمل هذه التشريعات: نشر المحتوى الذي يشجع على الإرهاب، أو التي تستغل الأطفال جنسياً، وسيكون على المواقع التعامل مع هذا النوع من المحتوى بكل صرامة، وبذل كافة السبل لمنع ظهور هذا النوع من المحتوى.
تستهدف هذه القوانين المنصات التي تسمح لأي شخص بالنشر بشكل عام، لذلك فإن فيسبوك، تويتر، إنستجرام، وأي شبكة اجتماعية سوف يكون عليها أن توضح بكل شفافية المحتوى الممنوع من النشر في منصاتها. ويبدو أن الحكومة البريطانية تريد من هذه الشركات أن تزودها ببيان واضح عن قواعد النشر في منصاتها ونشر تقرير شفافية سنوي.
تسعى الحكومة البريطانية وبحسب قولها إلى جعل الإنترنت في بلادها الأكثر أماناً في العالم. وهو هدف جميل من المفترض أن تسعى أغلب الحكومات إليه، ورغم أنني أشد على يد الحكومة البريطانية، وأدعو بقية الدول إلى اتباع نفس النهج، إلا أنني لا أرى أن الشيء كافي، ولتتضح فكرتي فقد قررت أن أتحدث عن الهيروين قليلاً.
الدواء السحري
في نهاية القرن التاسع عشر قامت شركة Bayer الألمانية بطرح دواء يحمل إسم “Heroin” (هروين) وقد سُوق للدواء على أنه مسكن للآلام ودواء للسعال، وقد قوبل الهروين بحفاوة كبيرة نظراً لقدراته السحرية خصوصاً في علاج السعال، لأن السل والالتهاب الرئوي كانت من أهم مسببات الوفاة في ذلك الوقت.
رغم أن هذا الدواء السحري كان يساعد في علاج السعال، إلا أنه له أعراضاً جانبية أهمها أن المرضى كانوا يحتاجون إلى زيادة الجرعة مع مرور الوقت لأن أجسامهم تصبح مقاومة للجرعات الصغيرة، ومع مرور الوقت يتحول المرضى إلى مدمنين، ومع أن الكثير من الأطباء حذروا من استخدام هذا الدواء إلا أن استخدامه استمر إلى منتصف عشرينات القرن العشرين.
التواصل السحري
بعد أكثر من مائة عام على ظهور الهروين، ظهر لنا هروين جديد، يتمثل في الانترنت بكل مافيها من الشبكات اجتماعية، تطبيقات، وغيرها من الخدمات، وكلها تقوم على أساس جديد وهو البيانات والخوارزميات، التي أصبحت المواد الخام التي يصنع منها الهروين الرقمي.
تعدنا الانترنت بكسر جميع الحواجز وإيصال المعرفة إلى شاشات هواتفنا، لوحياتنا، أو سماعاتنا الذكية، وأما الشبكات الاجتماعية فهي تسعى إلى ربطنا بكل الناس، وأصبحنا على معرفة بكل أحداث العالم (أو هكذا نعتقد) ومن معرفة نبض المجتمع أصبح تويتر وفيس بوك هما المصادر الأساسية لهذه المعلومات بدلاً قنوات الأخبار والمواقع الرسمية (بغض النظر عن كمية التلاعب التي تحدث في هذه المواقع).
الأمر الذي نعرفه هو أن كل هذه التطبيقات والمواقع صممت بطريقة تستغلك وتحولك إلى مدمنٍ رقمي، ينتقل من صفحة إلى صفحة، ومن صورة إلى الفيديو إلى التعليقات، وخلال كل هذه التنقلات سوف تشعر بالسعادة والفرحة وسيملئ الدوبامين دماغك بشكل مستمر.
برغم تصاعد الكثير من الأصوات التي تنتقد تصرفات الشركات وبنائها لخدماتها بشكل يشجع على “الادمان” إلا أن هذه الشركات لا تقوم بأي جهود فعلية سوى بعض المسكنات، مثل أن تخبرك أنك تستخدم هاتفك لفترة طويلة (وكأنك لا تعرف هذا الشيء مسبقاً)، وهي أشبه بنصيحة طفل بأن يبتعد عن الشوكولاته لأنها مضرة، هو سيستمع للنصيحة ولكنه لن يتبعها. هذا هو حالنا مع هذه التطبيقات، مع هذه المواقع، مع هذه الهواتف…نحن مدمنون ونحتاج إلى تدخل للحد من الضرر.
تدقيق
لو عدنا إلى الخبر الأول المتعلق بالحكومة البريطانية، فسوف نجد أن هذه الخطوة لا تعالج المشكلة وإنما هي محاولة لسد بعض الثغرات البسيطة، ولكنها لن تجدي نفعاً.
لعل مقترحي غريب بعض الشيء وقد يظن البعض أنه نوع من فرض “الديكتاتورية”، ولكن للضرورة أحكام.
ما أتصوره هو أن تكون هناك جهة حكومية (أو عالمية) تقوم بشيئين: الأول هو وضع معايير لبناء مواقع الانترنت، والتطبيقات، وكل مايدور في هذا الفلك.
هذه المعايير يجب أن تراعي أن يتم بناء المواقع بشكل “انساني” وأن لا يتم استغلال التقنية والتصميم من أجل جعلنا نبقى أطول فترة ممكنة لمشاهدة الأخبار، الفيديو، أو الصور المضحكة إلخ إلخ لأجل مشاهدة أكبر قدر من الاعلانات أو امتصاص أكبر قدر من بياناتنا السلوكية.
هذه التوصيات يجب أن تطبق من قبل المواقع التي تريد أن تكون متاحة في البلد، وفي حالة لم يقم الموقع باتباع هذه المعايير يجب أن يظهر لنا تحذير في كل مرة نزور فيها هذا الموقع بأن طريقة بناء هذه الموقع ضارة، وأن هذا الموقع يهدف إلى استغلالك، وفي الحالات القصوى يتم حجب الموقع وكل هذه الأمور متروكة للمشرعين.
أما الشيء الثاني فهو التدقيق في الخوارزميات التي تستخدم من قبل هذه المواقع، فهل خوارزميات يوتيوب مفيدة فعلاً أما أنها تتسبب في ضرر للناس؟ ماذا عن خوارزميات تويتر، فيسبوك وغيرها، هل تسعى هذه الخوارزميات إلى اظهار ماهو مهم فعلاً أم أنها تريد منا البقاء أطول فترة ممكنة بغض النظر عن أي ضرر نفسي قد تتسبب به خوارزمياتهم على المدى الطويل؟
كل هذه الأمور بحاجة إلى تدقيق ومراجعة مستمرة من قبل جهات مستقلة لجعل هذه الخدمات أكثر فائدة وأقل ضرراً على المستخدم العادي الذي قد لا يدرك مصلحته.
أدرك أن هذا المقترح غريب بعض الشيء، ولكننا هل تعتقدون أن الشركات سوف تقدم مصلحة المستخدم على مصلحتها وتقوم بتغيير تطبيقاتها وخدماتها لجعلها أكثر فائدة لك؟! والان عن اذنكم سوف أعود لتصفح تويتر.