في الغالب؛ أتيت إلى هنا عبر رابط منشور في تويتر، أو ربما نقرت على العنوان الموجود في الصفحة الرئيسية، لكن العنوان لن يمر عليه وقتٌ طويل حتى يغيب عن تلك الصفحة، وحتى عن الصفحات الأولى القريبة، سيغيب بعيداً في دهاليز قواعد البيانات، لكن -ولحسن الحظ- لدينا العم قوقل، والذي سيمسك بزمام الأمر فيما بعد، ويتولى إيصال حجاج المعلومة إلى هذه الصفحة يوماً بعد آخر.
لكن هنالك مشكلة تواجهنا، وهي أن هذه الصفحة إن لم تحقق ترتيباً عالياً في نتائج محركات البحث، فإن مصيرها هو “الموت الرقمي” بغض النظر عن الفائدة التي تحملها أو الجودة التي تقدمها، حيث أن هنالك حقيقة تثبتها الإحصائيات هي أن أول نتيجة تظهر في نتائج البحث تحصل على أكثر من 30% من نقرات المستخدمين وتحصل النتيجة الثانية على قرابة الـ 13% ويستمر المعدل في الإنحدار حتى يصل إلى 1% من الزيارات أو أكثر بقليل للنتيجة التاسعة، أما النتائج التي تظهر في الصفحات الثالثة وما بعدها، فلا يصل إليها إلا نسبة قليلة جداً من الباحثين.
الحقيقة المُرّة أن هنالك الكثير والكثير من المحتوى الرقمي الجيد والمميزة (نصي وصوتي ومرئي) لكنه يشكو النسيان، قطعة المحتوى التي تحتاجها أنت والتي يمكن لها أن تحل مشكلتك أو تسهل حياتك موجودة بالتأكيد في مكانٍ ما في هذا العالم الرقمي الشاسع، سواءً كانت في تدوينة دسمة أو فيديو غني، لكن بسببٍ أو بآخر، أنت غير قادر على الوصول إليها.
مشكلة المحتوى الغير نصي
في صباح اليوم السابق، وحين كنت أغرد مع العصافير في حديقة غناء، اشتهيت لأن أستمع لأنشودة أو أغنية تدور حول الطبيعة الخلابة وجمالها الأخّاذ، فتحت تطبيق ساوند كلاود وكتبت فيه “أغنية عن الطبيعة” ظهرت لي عدة نتائج لا تمت إلى الطبيعة بصلة، أعرف أغنية قديمة استمعت إليها قبل فترة، لكني لم أعد أتذكر اسمها، وأعرف أن هنالك الكثير غيرها، لكن للأسف عجزت أن أصل إلى نتيجة مرضية داخل ذلك المحتوى الصوتي الضخم.
المشكلة تتضح أكثر فيما يخص المحتوى المرئي، وبخاصة في نوعية من الفيديوهات تسمى “Vlogs” أو “تدوينات مرئية“، حيث يصور المرئ نفسه وجزء من حياته، يتحدث عن مواضيع مختلفة ويوثق بعض الأحداث العارضة، ثم يغلف كل ذلك المحتوى بعنوان قصير غير معبر، أو قد يعبر عن 10% فقط من محتوى الفيديو، كأن يقول مثلاً “ذهبت عند الدكتور” أو “لم أكن أعرف” أو غيرها من المسميات المبهمة.
للأسف هي موضة أصبحت سائدة في هذه النوعية من الفيديوهات، أن يكتب صاحبها إسم قصير -لا يُستفاد منه- يثير فضول المشاهد، وسيلة لإيقاع أكبر عدد ممكن من المشاهدين حتى يدخلوا ويشاهدوا ويكتشفوا بأنفسهم ماذا حدث، المشاهدين الذين هم فعلياً جزء من جمهور القناة -أو القادمين بالصدفة-، لكن ماذا عن مَن هم بحاجة فعلية للفائدة الموجودة داخل الفيديو؟ ماذا عن أولئك الذين يريدون الوصول لمحتوى الفيديو عبر محركات البحث؟
سأضرب لك مثالاً واقعياً، أحد الفيديوهات الأخيرة التي نشرها الأخ كريم السيد، تحمل عنوان “أصغر بطيخة في العالم” وهي عبارة عن تدوينة مرئية تحميل الكثير من المحتوى الذي لا يدخل ضمن إطار الـ”بطيخ” يبدأ الفيديو بعملية شراء وفتح صندوق جهاز درون “طائرة مسيرة” من نوع “مافِك”، ثم تجربة التصوير بها، كما تحدث الأخ كريم وعرض جزء من تجربته فيما يخص الرياضة واللياقة والجري الصباحي، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى.
المشكلة الحاصلة الآن هي أن هذا الفيديو لا يمكن الوصول إليه -عبر أدوات البحث- إلا من باب البطيخ فقط، فالعنوان والصورة تركز على تلك البطيخة الصغيرة التي تم التطرق إليها في أقل من دقيقتين فقط داخل الفيديو، بينما هنالك 17 دقيقة أخرى ليس لها علاقة بالبطيخ وليس لها دليل أو وسيلة وصول، لن يصل إلى الفيديو من يبحث عن طائرة “مافيك” ولا من يحتاج للاستفادة من تجارب الآخرين مع الجِم والجري في الصباح.
مشكلة التسمية
عندما يكتب أحدهم مقالة تشرح استخدام أحد البرامج أو التطبيقات، أو عندما يكتب درساً حول المضارع البسيط في اللغة الإنجليزية، أو حتى فيديو يشرح شيء محدد، فهنا يكون العنوان معبراً تماماً عن المحتوى، ويكون الوصول إلى ذلك المحتوى أمر في غاية السهولة، حيث تعتمد محركات البحث على العنوان بشكل كبير في التعرف على ما يختفي بداخله.
لكن هنالك مشكلة في نسبة كبيرة من المحتوى الذي يخرج عن تلك التصنيفات السابقة، كمثل هذه المقالة التي تقرأها الآن، والتي تناقش مشكلة أو معضلمة رقمية معينة، والمعنونة بـ”المحتوى المدفون”، فكلمة “مدفون” تنتمي إلى فئة اخرى من المواضيع بعيدة عن التقنية، قد يصل إليها من يبحث عن “مجوهرات مدفونة” مثلاً أو من يعملون في التنقيب عن آثار إنسان في العصر الحجري.
في الحقيقة؛ ليس الأمر بذلك السوء فيما يخص المحتوى النصي، فمحركات البحث اليوم -وعلى رأسها قوقل- أصبحت أكثر ذكاءً، لم يعد العنوان هو العامل الوحيد للدلالة على المحتوى، بل أنها تتعرف على النصوص والعناوين الجانبية وبقية أجزاء المقالة ثم تحدد هويتها العامة، ولازالت الجهود تبذل والحلول تبتكر في سبيل مساعدة المستخدم في الوصول لما يريد، أو على الأقل؛ هذا ما صُرح به في مؤتمر قوقل الأخير: “Made by Google 2018“.
المشكلة -كما ذكرنا- في المحتوى غير النصي، في ملفات الصوت والفيديو، ودعني هنا أركز على أهمية المحتوى الصوتي في عصرنا الحالي، فأنت -كمستخدم عربي- قد لا تعي حجم المحتوى الصوتي الجيد والمفيد الذي يُنشر عبر برامج البودكاست الأجنبية؛ تلك الحلقات الصوتية التي تُنشر في الكثير من المجالات وتقدم خلاصات وخبرات البشر على طبق من ذهب، وخاصة أن الصفة السائدة في حلقات البودكاست أنها طويلة، قد يصل طول الحلقة الواحدة إلى أكثر من ساعتين (كما هو الحال في بودكاست TWiT التقني)، حيث يتحدث مقدم البرنامج مع عدة ضيوف عن عدة مواضيع تقنية، لكن يتم اختيار موضوع واحد فقط ليكون عنوان الحلقة، فيما تَبْقَى المواضيع الأخرى مغمورة ومدفونة داخل ذلك الملف.
المشكلة تتفاقم فيما يخص المدونات الشخصية والمحتوى الأدبي، فأنت -على سبيل المثال- قد تكتب تدوينة أدبية مؤثرة بعد فقدان أحد الأعزاء عليك، ولأن الصياغة الأدبية تقتضي أن لا تكون مباشراً في كلامك أو في عنوان تدوينتك، بينما الذي يريد أن يصل لمثل هذا المحتوى سيكتب في البحث على سبيل المثال “كلام مؤثر عن الفراق”، وسيكون هنالك فجوة بين من قد يحتاج إلى ذلك المحتوى أشد الاحتياج (قد يمر بنفس الظروف) وبين قطعتك الأدبية التي قد تساهم في ترميم جروحة ومواساة قلبه.
السباق على المراكز الأولى
يغرد المهندس محمد المشيقح ويقول “يبدأ إثراء المحتوى العربي، بالمحافظة على ما تبقى منه، ومن ثم زيادة المحتوى.” مشيراً إلى أن الكثير من المواقع والمدونات العربية تقفل أبوابها شهر بعد شهر لعدة أسباب، وأنا هنا أضيف أن من أهم الأسباب لذلك هو موت ذلك المحتوى -سريرياً- لعدم وصول القُرّاء إليه أو المستهلكين له إن صح التعبير.
جزء من المشكلة هو دخول لاعبين من نوع آخر إلى الساحة، من يريدون الكسب المادي وليس غير المكسب، هؤلاء يتقنون فن استهداف محركات البحث، أو ما يسمى بعلم الـ SEO، يسعون جاهدين لأن تكون صفحات مواقعهم في أوائل نتائج محركات البحث، أما في المحتوى المرئي -في اليوتيوب على وجه الخصوص- فهم يعرفون كيف يقتنصون المواضيع الجذابة والصور البارزة، دون الاهتمام بجودة المحتوى أو مقدار الفائدة أو حتى بدقة المعلومة وأصالة المصادر.
يعلق أحدهم على مقالة “هل لازالت الفرصة سانحة للنجاح في يوتيوب” ويقول: مقال ممتاز لكنه ليس صحيح مئة بالمئة فالنجاح الآن لا يتطلب إلا أن تكون تافهاً ومنافقاً لجمهورك والعكس، هناك قنوات إبداعية بمعنى الكلمة لكن عدد مشتركينهم لا يتجاوز 10000
المستخدم في اليوتيوب ليس لديه إلا صفحة رئيسية واحدة وشريط جانبي واحد -للفيديوهات المقترحة- وفي هذه الأماكن المحدودة يتزاحم عدد قليل جداً من الفيديوهات للفوز بالنقرة المنتظرة، بينما هنالك آلاف من الفيديوهات يتم رفعها إلى المنصة كل دقيقة، أعتقد من الصعب علينا تخيل كمية المحتوى المهول في هذه الشبكة العملاقة، لكن للأسف لا يكاد يصل إلينا شيء من كنوزها وعظيم فوائدها، فالمراكز الأولى تستحوذ عليها بعض الفيديوهات التي أتقن أصحابها فن الاستهداف.
كم من مدونة شخصية حَوَت تجارب الحياة وإبداعات العقول قد أقفلت أبوابها أو سكن العناكب زواياها، كم من مدون لديه قلمٌ ذهبي وأفكار جميلة لم يعد قادراً على الكتابة بسبب صدى تساؤل يتردد بين أذنيه: “من سيقرأ؟” كم من قناة جديدة بأفكار جميلة انطلقت ثم ما لبث صاحبها بعد أشهر قليلة أن استسلم بسبب قلة المشاهدات أو عدم التفاعل.
ثم ماذا بعد …
هنالك جزء آخر لهذه المقالة يركز على بعض الخطوات التي تساهم في الحل، آثرت أن أخصص لها مقالة منفصلة قادمة إن شاء الله (ستجدها في هذه الصفحة بعد أن يتم نشرها)، لكن تبقى تلك مجرد خطوات واقتراحات، فنحن هنا نتحدث عن معضلات تتطلب منا المزيد من التفكير والمزيد من الجهود في سبيل حلها، وليس الحل مقتصراً على المؤسسات والشركات، بل أن هنالك أمور صغيرة يمكن لأي فرد فعلها، فكما تعلم … جهود الأفراد المجتمعة تفوق -في تأثيرها- جهود المؤسسات المنفصلة.