التغيّر الثقافي وبيئة ريادة الأعمال في المملكة
يأتي التحوّل الاقتصادي الذي تعيشه المملكة اليوم مصحوباً بتحوّل ثقافي كبير، حيث تتكامل الإصلاحات الإقتصاديّة مع جهود تحسين نمط الحياة وبناء مجتمع حيوي ومزدهر، مما يحفز الابتكار ويجذب الاستثمارات والمواهب من أنحاء العالم، مسهماً في تحقيق رؤيتنا الطموحة. وينعكس ذلك على ريادة الأعمال بشكل خاص، فهي إحدى المقوّمات الاساسيّة للمستقبل الاقتصادي للمملكة. لكن هنا تظهر أحد العقبات الثقافيّة التي لم تأخذ حقها من النقد، والتي تنعكس سلباً على مناخ الأعمال في المملكة بشكل عام. هذه الإشكاليّة هي التمييز والعنصريّة في بيئة العمل، والتي بدروها تنعكس بشكل سلبي على الأداء والإنتاجيّة والابتكار والقدرة على جذب وتحفيز أفضل المواهب والمستثمرين. إن التغيير المتسارع والطموح الذي نعيشه اليوم يشكّل فرصة ذهبيّة لإرساء قواعد بيئة ترحّب بالجميع وتتقبّلهم وتحترمهم. بيئة أساسها الأداء والإنتاجيّة والابتكار الذي يحفز ريادة الأعمال ويحقّق أهداف التنمية الاقتصاديّة.
إن بناء بيئة عمل حيويّة تكافئ الفرد بغض النظر عن منطقته أو أصله أو قبيلته أو مذهبه، يسهم في جذب وتحفيز المواهب الوطنيّة لتقديم أفضل ما لديها، ويشجّع الأفكار الخلّاقة التي تسهم في دفعنا نحو المستقبل. ورغم وجود إصلاحات تسعى لتوفير المساواة في الفرص بين أبناء الوطن، فالوضع الراهن مازال غير مرضي. فالمستثمر على سبيل المثال سيتفادى الاستثمار مع رائد أعمال يقع مشروعه في منطقة تجاهلتها عجلة التنمية، ما لم ينتقل رائد الأعمال إلى إحدى المدن الكبرى. وينطبق ذلك أيضاً على رياديّات الأعمال، الذين قد يتفاداهم الاستثمار في المراحل الأوليّة (عندما يكونن في أشد الحاجة إليها) بسبب العقبات التنظيميّة التي تعترض طريقهن، فتحد من فرص نجاحهن وتزيد من مخاطر الاستمثار في مشاريعهنّ. وهنا تأتي أهميّة أن تأخذ الإصلاحات الحاليّة في الحسبان تكوين بيئة توفّر الفرص العادلة للجميع. لكن في المقابل، فإن إزالة العقبات التنظيميّة وتصحيح أخطاء خطط التنمية السابقة غير كافي، حيث يجب أن يترافق مع تغييرات ثقافيّة تصحّح بعض الممارسات والتوجهات. فحتّى بعد إزالة العقبات التنظيميّة، فإن الشركات والمؤسسات في نهاية المطاف مكوّنة من أشخاص قد يمارسون التمييز، أو أثناء اتخاذ القرار يأخذون في الحسبان وجوده في الثقافة المحليّة.على سبيل المثال، قد يتفادى المستثمر الدخول مع رائد أعمال ينتمي إلى أقليّة تتعّرض للتمييز، لأن المسثمر يعلم بأن الثقافة الحالية ستحد من فرص نجاح مشروعه. إن تغيير القوانين قد يتم عبر جرّة قلم، لكن تغيير الثقافة وممارسات الأعمال يأخذ وقتاً، خصوصاً في المؤسسات الكبرى. لكن بيئة ريادة الأعمال تملك المقومات أن تقود هذا التغيير الثقافي في بيئة العمل، والذي سينعكس على أداءها من خلال استقطاب أفضل المواهب وتشجيع الابتكار، وريادتها في عالم الأعمال في المملكة.
تغيير ثقافة بيئة العمل هو أيضاً ذو أهميّة كبرى لجذب أفضل المواهب من أنحاء العالم إلى المملكة. فمع تقديم وزارة التجارة لرخصة رائد الأعمال والمستثمر العالمي، تزداد أهميّة بناء مثل هذه البيئة. فالمواهب المتميّزة لن تقبل العمل في بيئة تعاني من التمييز وغياب العدل والمعاملة الفوقيّة للأشخاص المختلفين. فمثلاً هل سنرى قدوم أفضل المواهب من الهند ودول جنوب شرق آسيا التي تتألّق في المشاريع التقنية، في ظل بيئة تعاملهم بناء على صور نمطيّة رجعيّة؟ لذلك فإننا بحاجة إلى تغيير ثقافي جذري ينبذ التمييز والعنصريّة ويحفّز بيئة منسجمة تحترم الاختلاف، وتكافئ المهارة والكفاءة وأخلاقيّات العمل. وتبرز أهميّة التغيير الثقافي أيضاً مع جهود تحسين مناخ الاستثمار في المملكة، وجذب الاستثمارات العالميّة للشركات الناشئة السعوديّة، والتي تاتي بالتوجيه، والخبرة، وفرص التوسّع الجغرافي والدخول لأسواق جديدة. فظهور قضايا التمييز والعنصريّة والمناطقيّة والقلبيّة إلخ على السطح، واتضاح استشرائها يضرّ هذه جهود جذب الاستثمارات بشكل كبير.
إن تحقيق رؤية 2030 يتطلّب تحقيق تغيّر جذري في ثقافة العمل الحاليّة لدينا، من أجل بناء بيئة ترحّب بالجميع، وتنبذ العنصريّة والتمييز. إن الأهداف الطموحة التي تسعى إليها بلادنا تتطلّب أن يعمل جميع أبناء هذا الوطن معاً، واضعين أيدينا في أيد أفضل المواهب والمبدعين والمبتكرين والمستثمرين من أنحاء العالم، في بيئة تقوم على الاحترام المتبادل، وتحفّز الأداء والابتكار لاغتنام الفرص وبناء المستقبل.