مقالات

سمات عصر الإنترنت (4): خدمات مجانية وإعلانات تجارية

oa_ads

في الموسم الأول من المسلسل التلفزيوني المثير للجدل (Black Mirror) قام بإخراج الحلقة الثانية المخرج (Euros Lyn) وقد كانت تدورر حول رؤية تخلية سوداوية لتأثير التقنية على مستقبل الحياة البشرية، عندما تصبح حياة جميع البشر تدار بواسطة الأنظمة الآلية والذكاء الإصطناعي، يقوم الشخص بالعمل طيلة النهار من أجل نقاط رقمية من خلالها يمكنه أن يشتري ما يحب، وفي الغالب هو يشتري منتجات رقمية كذلك، أغاني وأفلام وغيرها من المواد الرقمية والقليل فقط من الغذاء الصحي الذي يبقيه على قيد الحياة.

في ذلك العالم الغريب، حيث يصبح الإنسان أكثر عزلة، يعيش في غرفة كل جدرانها من شاشات البلازما التي تعرض عليه كل شيء مرتبط وغير مرتبط بحياته، وكذلك تعرض عليه الكثير من الإعلانات، تلك الإعلانات التي يجب عليه مشاهدتها، إذا أراد تخطي أي أعلان يجب عليه أن يدفع بعض النقاط من تلك التي يكسبها بعرق جبينه، أما إن قرر إغماض عينيه كي لا يشاهدها فإن الإعلانات تتوقف حتى يقوم بتوجيه نظره إليها مرة أخرى فتعمل (حنجيبك يعني حنجيبك).

نعم هنالك الكثير من الإعلانات تحيط بنا من كل جانب هذه الأيام، في التلفاز وفي الشوارع وفي الصحف والمجلات وكذلك على صفحات المواقع في شبكة الإنترنت، لكن بالتأكيد لم نصل إلى المرحلة السوداوية التي يعرضها لنا المسلسل، مازال بإمكاننا الاختيار، يمكن أن نشاهد أو نطفئ التلفاز، يمكن أن نشتري الجريدة أو لا نشتريها، بإمكاننا أن نتصفح الموقع أو نستغني عنه. لكن بطريقة غير مباشرة هنالك (لوي ذراع) إن صح التعبير، وكأنهم يقولون لنا: إن أردت الإستفادة والاستمتاع فعليك مشاهدة الإعلانات.

تبادل مصالح

النظام القديم الذي قامت عليه الحظارة البشرية ولازال قائمة عليه حتى اليوم، هو تبادل المصالح والمنافع، أنت تزرع قمحاً وذرة، وأنا أزرع خياراً وطماطم، سوف أبادلك بعض ما عندي وأنت أعطني بعض ماعندك، كي نستمتع كلنا بهذا التنوع الغذائي الجميل، وهكذا هو الحال في بقية الأمور، خذ شيء وأعطي شيء، ثم ظهرت الأوراق المالية التي سهلت علينا عملية الأخذ والعطاء حتى نتمتع بتشكيلة واسعة من المنتجات الزراعية والصناعية القادمة من مختلف بقاع الأرض.

في المجال الإعلامي والترفيهي، مثلاً التلفاز، كانت هذه هي الطريقة الأساسية التي يعمل من خلالها نموذج الأعمال في هذا المجال، هنالك قنوات متخصصة في بعض المحتوى المميز، يمكنك الحصول عليه وإدخال تلك القناة إلى تلفازك عبر دفع مبلغ شهري ثابت، خذ مثلاً قنوات الأفلام المدفوعة، لكن فيما بعد ظهر نموذج آخر، هو تبادل أمصالح أيضاً لكن من نوع آخر.

ظهرت القنوات المتخصصة التي تقدم المحتوى المدفوعة لكن هذه المرة بالمجان (مثل قنوات الأفلام والأخبار)، لم يعد المشاهد ملزماً بدفع مبالغ مالية مقابل الإشتراك الشهري، لكن في المقابل سوف يشاهد الكثير من الإعلانات التي تظهر عليه من كل جانب، قبل المحتوى وبعده وفي الأثناء وبعد شارة البداية وقبل شارة النهاية و…..الخ

إنه تبادل مصالح لكن من نوع آخر، هم يقدمون لنا محتوى مميز ونحن نشاهد الإعلانات والذي يدفع ليس هم ولا أنت، بل تلك الشركات التي تعلن عندهم، لأنهم بتقديم ذلك المحتوى المجاني يحصلون على ملايين المتابعين المنتظرين لجديد القناة، هذه الجموع الغفيرة هي من تصنع النجاح لهذه القناة أو تلك وتجلب لهم ملايين الدولارات من خلال الإعلانات.

الإعلانات الرقمية

نعود إلى مجالنا الرئيسي هنا، إنه العالم الرقمي، المواقع والشبكات الإجتماعية، تلك الشبكات الإجتماعية الكبيرة مثل الفيسبوك وتويتر، فشبكة مثل اليوتيوب التي توفر خدمة رفع ونشر الفيديوهات، تنفق أموالاً طائلة لتخزين وعرض تلك الفيديوهات، لأن الفيديو من أكثر أنواع المحتوى استهلاكاً للمصادر، تلك الشبكات توفر لنا خدمات رائعة ومميزات ثورية وهي في تطوير مستمر لتلبية احتياجاتنا وتسهيل علينا حياتنا، كل شبكة لديها آلاف الموظفين في مبانيها يعملون ليل نهار لخدمتنا، وكل هذا بالمجان!

العائد يأتي عن طريق الإعلانات الرقمية، تلك الإعلانات التي تظهر أمامك في وسط صفحة الفيسبوك وأنت تنزل إلى الأسفل، إعلان لمنتج أو شركة، إعلان لصفحة أو مبادرة، الكثير من الإعلانات تظهر أمامنا كل يوم في عالم الإنترنت وفي الحياة الرقمية (في تطبيقات الهاتف أيضاً)، تلك الإعلانات التي هي سبب رئيسي في استمرار تلك الشبكات في العمل واستمرار تطوير خدماتها لنا بالمجان، ونحن نستمر في الإستفادة منها أكثر وأكثر.

حتى في المواقع الصغيرة، المواقع الإخبارية أو المدونات الشخصية، الكثير من المواقع اليوم أصبح يعتمد على الإعلانات الرقمية كمصدر للدخل، فهو يقدم لك المحتوى الجيد بشكل مجاني، وفي المقابل يعرض عليك أعلاناته كي تنقر علي أحدها من أجل أن يكسب هو 2 أو 3 سنتا من الدولار، وسنتاً بجوار سنت حتى تصبح مئات أو آلاف الدولارات، هذه الدولارات التي تعتبر مصدر دخل لصاحب الموقع ومشجعاً له للكتابة أكثر وتقديم محتوى أفضل من أجل أن نستفيد منها أنت وأنا.

هل أنت هو السلعة؟

إذاً هي خدمات مجانية ومحتوى مجانية، الكثير من الأشياء اليوم في العالم الرقمي هو مجاني، يمكنك أن تحصل على خدمات تعليمية جيدة بالمجان، وعلى الوصول إلى المعلومة بالمجان، ويمكن التواصل مع الأهل والأصدقاء بالصوت والصورة بالمجان، ويمكن ويمكن ….. إلى آخر المطاف، لكن ماهو المقابل؟

ينتشر مفهوم (أنك إن استخدمت شيئاً مجانياً فأنت هو السلعة) وهذه العبارة ليست دقيقة وصحيحة 100%، فهنالك سلعة أخرى تباع وتشترى، هي تلك المساحات الفارغة بجانب المحتوى وتحته وفوقه و…الخ، السلعة هي إمكانية الوصول إلى عدد كبير من المستخدمين، السلعة هي إمكانية تسويق المنتج وعرضه على الكثير من الأشخاص، هنالك طرف ثالث يدخل في اللعبة، هو الذي يدفع مقابل الدعاية والإعلان، أما أنت فالخيار لك في أن تشتري أو لا تشتري، في أن تشترك أو لا تشترك، الامر فقط مجرد عرض خدمة أو منتج وأنت لك القرار الأخير.

وقد يقول قائل أن المشكلة هي في تتبع تلك المواقع والمنصات لرحلة تصفحنا، مثلاً قوقل ترصد المواقع التي زرت وعبارات البحث التي استخدمت، من أجل أن تعرف اهتماماتك فتظهر لك إعلانات تناسب رغباتك وميولك، لكن، أليس هذا أمر إيجابي لنا كمستخدمين؟ أليس من الجميل أن تظهر أمامنا إعلانات في نطاق اهتمامنا؟ ومن جانب آخر يمكنك ببساطة أن تتحكم في إعدادات الخصوصية تلك، الأمر متاح لك في أن توقف ذلك التتبع عبر الإعدادات الخاصة في تلك المواقع والشبكات أو عبر التصفح الخفي عبر برنامج التصفح الذي تستخدمه.

الجميع رابح

هذا النموذج الإقتصادي القائم على الإعلانات خيره أكثر من شره، هو مفيد للجميع، أنت تستفيد بالحصول على المحتوى المجاني والخدمة المجانية، وصاحب الموقع أو الخدمة يستفيد بالعائد المادي الذي يحصل عليه من صاحب الإعلان، أما المعلن فهو مستفيد بأن أوصل إعلانه إلى ملايين الأشخاص وحصل على مبيعات كبيرة وكسب من ورائها الكثير من المال، الجميع مستفيد إن تم استخدام هذا النموذج بشكل سليم.

المشكلة هي عندما يُساء استخدام هذا النموذج الإقتصادي، عندما تجد بعض المواقع وهي تحتال على المستخدم من أجل أن توقع به الشرك كي ينقر على الإعلانات، تتعدد وسائل الخداع لكن النتيجة واحدة، أنت تخسر كمستخدم عادي، وصاحب الإعلان يخسر لأنه حصل على زوار غير مهتمين دخلوا إعلانه عن طريق الخطأ، وهو فقط يربح، صاحب الموقع أو المدونة، هنا لم يعد الجميع رابح، بل واحد رابح و 2 خسرانين.

لذلك فدائماً نقول أن المشكلة ليست في الإعلانات، فبسببها نحصل على محتوى مجاني مفيد وخدمة رقمية جيدة، لكن المشكلة هي في من يسيئ للمتصفح والزائر بعرض الإعلانات في كل مكان، بجعل الإعلانات هي المحتوى الأساسي الذي من أجله تم بناء الموقع، في أولائك الذين يقدمون المحتوى التافه والمسيئ لتحقيق بعض الربح البسيط، لذلك يجب أن نقاطع تلك المواقع، ونشجع المواقع الأخرى التي تهتم بجودة المحتوى وتحترم الزائر وتحترم وجوده داخل الموقع كما يجب أن نشجعها بنشرها ونشر صفحاتها المفيدة، حتى عندما تحتوي على إعلانات فهذا أمر عادي وهي فائدة تعود على الجميع.

للإطلاع على المقالات الأخرى من هذه السلسلة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى