عصر الخدمات الرقمية المجانية !
قبل أيام، زارني صديقي وطلب المساعدة في ترجمة بعض الكتب والمراجع الأجنبية إلى العربية (كتب رقمية على هيئة PDF)، طبعاً بواسطة خدمات وطرق الترجمة الآلية، لم يكن يعلم صديقي أن ترجمة قوقل فيها خاصية ترجمة المستندات، فأخبرته بهذه الخدمة فَسُر بها، لكني أيضاً لم أكن متأكداً من حجم المستند الذي يمكن أن يتم ترجمته بواسطة هذه الخدمة وخاصة أنها (مجانية) تماماً، فجربنا بالكتاب الأول، فترجمه مباشرة دون مشاكل، وجربنا الكتاب الثاني الذي يحتوي على حوالي 100 صفحة، فترجمه بدون مشاكل أيضاً وفي وقت قياسي، فدهشنا بهذه الخدمة المجانية وتذكرت كيف كان الأمر قبل عشر سنوات من الآن.
هل تذكرون موقع (عجيب) الذي انطلق قبل 15 سنة، كان ظهوره بمثابة ثورة معلوماتية وفرصة لا تقدر بثمن، يترجم صفحات كاملة ومواقع على شبكة الانترنت، انه فعلا امر عجيب (في ذلك الوقت) لقد كانت خدمة مميزة في زمن مبكر، لكنها ما لبثت أن أصبحت خدمة مدفوعة، فأصبنا بخيبة أمل، أما اليوم فقد جاء قوقل للترجمة ليوفر دستة من الخدمات الاحترافية في الترجمة وكلها بالمجان، فماذا يحدث بالضبط؟ ولماذا المنتجات الرقمية المجانية اليوم تتسابق على كسب ودنا ورضانا ؟
الآن أصبح كل شيء مجاني، ليس كل شيء طبعاً بالمعنى الحرفي، لكني اقصد أن كل ماسوف تحتاج إليه في حياتك من خدمات رقمية سوف تجدها مجانية، في الغالب طبعاً، فما هو السر وراء توفير هذه الخدمات مجاناً وماذا يستفيد أصحاب تلك الخدمات المجانية؟ هل هي مؤامرة؟ أم أن القلوب قد رقت والزمن قد تغير وأصبح العالم يعطي ولا يأخذ؟
الجميع رابح
أنه مبدأ (الجميع كسبان) الذي ينتشر أكثر وأكثر في هذا العصر، عصر السماوات المفتوحة، فمن أجل ان تكسب إسمح لغيرك أولاً أن يكسب، لذلك نجد هذا النموذج الربحي والمبدأ العملي هو وراء الكثير من الخدمات المجانية التي نشاهدها في عصرنا الحالي، لأنك سوف تجد في الغالب نية للكسب والربح من وراء اتاحة تلك الخدمات المجانية، لأن العصر تغير وتغيرت معه نماذج الكسب التقليدية التي كانت تتمثل في تطوير منتج ثم بيعه بالقطعة، فما هو الذي تغير بالضبط؟
الذي تغير هو حجم الجمهور الممكن الوصول إليه بأبسط الطرق وأرخص التكاليف، فالآن عندما تقوم انت كمطور أو شركة بإطلاق خدمة رقمية مميزة بشكل مجاني، فإن قابليتها للإنتشار كبيرة جداً بسبب العالم الرقمي المفتوح والشبكات الاجتماعي المنشترة في كل حاسوب وكل هاتف ذكي، لذلك أنت ستضمن أن يصل صوتك إلى عدد هائل من المستخدمين وتجمع حولك جمهور كبير في مدة قصيرة، هذا الجمهور هو مكسب كبير في حد ذاته، فكيف ذلك؟
إن مشكلة تسويق المنتجات الجديدة هو كيفية الوصول إلى المستخدمين، سواءً عبر ايميل او رسالة أو عبر تطبيق يستخدمه أو اعلان يطّلِع عليه، وكل مستخدم جديد تصل إليه يكلفك مبلغ من المال، لذلك فالتكلفة تكون باهضة، الأمر الآخر انك بعد ان تصل إلى هذه المستخدم هنالك احتمال بسيط أن يقتنع بمنتجك ثم يشتريه، الاحتماع الأكبر هو أن لا يكترث به، وهذه مشكلة التسويق التقليدي. لذلك فالشركات الآن تميل لأن تقدم خدماتها أولاً بشكل مجاني من أجل ان تصل إليك وتبني معك علاقة ثقة. فانت تستفيد وهم يستفيدون والجميع رابح.
نموذج النسخة المطورة
السبب الأول الذي يقف خلف توفير هذا الكم الهائل من الخدمات والمنتجات الرقمية بالمجان هو من أجل نشر هذا المنتج بين عدد كبير من المستخدمين، وتوفير بعض الخدمات والخصائص فقط في النسخة المجانية، ومن ثم توفير نسخة أخرى مدفوعة من هذه الخدمة أو المنتج وتسويقها ضمن الجمهور المستخدم لهذه الخدمة ذاته، فمن جهة سوف يكسبون انتشار المنتج المجاني بشكل واسع (لأن الخدمات المجانية تنشر نفسها بنفسها تقريباً) وبالتالي الحصول على جمهور مستهدف يمكنهم تسويق خدمتهم المطورة بينهم، ومن جهة أخرى سوف يتيحون للمستخدم تجربة جزء من الخدمة كي يقتنع بنفسه بجدوى وفائدة المنتج.
المبدأ يعمل في هذا النموذج، مبدأ الجميع رابح، فأنت تربح استخدام مجاني للمنتج وقد لا تحتاج إلى تلك الخصائص الإضافية فتكتفي بالنسخة المجانية، أما المطور وصاحب الخدمة فيكسب عدد كبير من الاشتراكات ومن ثم عمليات الشراء للمنتج المُطور.
نموذج الإعلانات الرقمية
النموذج الآخر من مصادر الدخل والكسب من وراء الخدمات المجانية هي الاعلانات الرقمية، هذا الأسلوب الذي أصبح طاغياً في كثير من المجالات الرقمية وأصبح مصدراً كبيراً للدخل وفي نفس الوقت فائدة عظيمة للمستخدم العادي، فأنت في الأخير لن تنزعج كثيراً من تلك الإعلانات التي تظهر بين الفينة والأخرى في محرك البحث قوقل أو في صفحة الفيسبوك الرئيسية، فأنت في المقابل لديك خدمات كبيرة توفر لك الجهد والمال.
يعتمد هذا النموذج على توفير خدمة او منتج مميز فعلاً من أجل الحوصل على انتشار كبير، ويجب على هذا المنتج أن يكون خدمة أونلاين أو منتج يتطلب التوصيل بالانترنت لأن آلية عمل الاعلانات الرقمية تتطلب اتصالاً بالخوادم المركزية (في الغالب).
لن يكون هنالك أي خدمة أو منتج مُحسن يتطلب الشراء، فالخدمة مجانية تماماً هنا، لكن في المقابل سوف تسمح لهم بعرض بعض الإعلانت عليك، وربما يتم استخدام بعض بياناتك التي سمحت لهم بالحصول عليها من أجل استخدامها في تحسين ظهور الاعلانات، وهنا ايضاً لازال المبدأ يعمل، مبدأ الجميع رابح.
نموذج الـ ??? (علامات الاستفهام)
مسألة ان الجميع كسبان وفمهمناها، لكن مابال تلك الخدمات التي لا تكسب من وراء خدماتها شيء، تعطي ولا تأخذ، هل أصحابها زاهدون في الحياة الدنيا، أم هنالك أمور خفية لا نعرفها؟
بعض الخدمات التي تتبع شركات كبيرة، مثل ترجمة قوقل وغيرها من منتجات قوقل المجانية تماماً، يكون الهدف الأساسي من ورائها زرع الثقة وتقوية العلاقة بين المستخدم وبين الشركة الأم التي توفر الخدمة، لأن الشركة الأم توفر خدمات أخرى غير مجانية أو شبه مجانية، وهي تعرف أن هنالك مكسب بعيد المدى وغير مباشر من تقديم تلك الخدمات المجانية.
لكن تظل بعض المنتجات الرقمية الأخرى التي لا تكسب من وراء البيع ولا من خلال الاعلانات وكذلك ليس لديها أية منتجات أخرى تريد تسويقها، وتعلن دائماً انها لا نية لها بالحصول على مردود مادي، تظل لغزاً محيراً حول الدوافع والأسباب الحقيقة، مثل تطبيق التليجرام الذي يؤكد أصحابه أنه مجاني وسيضل مجانياً إلى الأبد بسبب وجود داعم كبير لا يريد الربح من وراء هذا التطبيق، لكن في الأخير ليس لنا إلا أن نحسن الظن لأننا مأمورن بذلك في قرآننا الكريم.
الخلاصة …
هذه الخدمات والمنتجات المجانية أتاحت الكثير من الفرص، وقدمت العديد من التسهيلات لكل مريد للنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، ولم يبقى إلا أن ننطلق في دروب هذه الحياة من اجل ترك بصماتنا الحسنة فيها وزرع الفسائل في أرجائها، وتحقيق أعمال عظيمة تشرفنا في الدينا والآخرة. فانطلق اخي/اختي فلقد أصبحت الأبواب مفتوحة أمامك وبالمجان.
قرأت مرة شيخا يقول اذا كانت الخدمة مجانية فاعلم انك انت السلعة او البضاعة….