فنّ التكثيف بين الأدب العربي والتقنية الحديثة
لقد كان من أميز الرجال عند العرب في صدر الجاهلية هو من يتكلم بكلام قليلة ألفاظه، كثيرةٍ معانيه ودلالاته، وسُمي قديما بـ جوامع الكَلِم، وهي الصفة التي نقلها الرواة عن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتكلم بضع كلمات يشرحها من بعدها ببضع مجلدات.!
جوامع الكلم، تعني الاختصار الشديد بالألفاظ، والتقليل من الحروف، وأن تشمل معانٍ عديدة، وهي ميّزة لا يستطيعها إلا من كان بحرا في اللغة وعبقريا في الاستخدام والتوصيف.
ظل هذا الفن مقتصرا على فطاحل الشعراء والحكماء والأدباء العرب قديما وحديثا إلا قليلا، حتى ظهرت التقنية –بقصد أو بغير قصد- فأجبرت الناس عليه فامتهنه من استطاع التأقلم معه وعجز عنه من لم يستطع مواكبته.
التكثيف، كلمة تستخدم في فنّ القصة القصيرة جدا، وفن القصة قديم وأصيل، ثم تفرّع إلى فن آخر يسمى القصة القصيرة، ثم زاد تطوّرا حديثا فخرج فنٌّ جديد بمسماه وإن كان في السابق مَن كتب على نحوه إلا أن المسمى جديدا، وهو فن القصة القصيرة جدا.
فالتكثيف هو أهم عناصر القصة القصيرة جدا، والمراد به هو الاختصار غير المخل الذي يوحي بالمعاني المقصودة والتي قد لا يأتي بها الاطناب والتطويل.
ومسألة التّكثيف ليست جديدة في أدبنا العربي فمن يعود إلى مجموعة جبران خليل جبران: (المجنون) التي ظهرت منذ حوالي ثمانين سنة سيكتشف أنّ مسألة التّكثيف واردة حتى في أدبنا المعاصر أيضا.
فالقصة القصيرة جدا ناشئة في الأدب العربي قبل سنوات عديدة من فكرة التدوين في تويتر بـ 140 حرفا، ومن فكرة مقطع انستقرام المرئي بـ 15 ثانية، وسناب شات التي أقصاها 10 ثوانٍ.
فهناك من يكتب القصة بأقل من 140 حرفا، وتحتوي على مقدمة وصلب موضوع وخاتمة (قفلة).! وهذا ما يعجز عنه تويتر وبني قومه.!
ربما جاءت فكرة التدوين السريع عند تويتر وأشباهه من سرعة العالم وتطوره، وأن الناس لم تعد تتحمل الجلوس دقائق طويلة على مقطع واحد.
ومن المفارقات العجيبة أن جلوس الناس على شبكات التواصل وعلى الهواتف المحمولة أصبح أكثر وبمدة أطول، ومع هذا أصبح المحتوى أسرع وأقصر، فالملل ليس من الجلوس على الشبكة ولا من شبكات التواصل، بل من مشاهدة مقطع واحد أو قراءة مقال واحد بمدة طويلة، فهو يقضي أربع ساعات متواصلة على جواله لكنه لا يستطيع أن يقضي خمسة دقائق على مشاهدة مقطع يوتيوب مثلا، ولا أن يقرأ منشورا طويلا على فيسبوك، فتراه يمل بسرعة ويريد أن يغير ويجدد كل دقيقة.
من هنا ظهر عالم السرعة، وأصبحت تلبية حاجات الناس تقنيا أمر مهم للغاية، فهناك العديد من الشركات تسعى جهدها في اختصار التدوينات والمحتوى المرئي والمقروء، حتى لا يمل قارؤها ويضجر.
فهل سيأتي من يتحدى هذه السرعة ويخرج بشيء جديد مع التكثيف دون إخلال بالمعنى، بل وبإبداع وتمييز.
هذا ما تحوجنا إليه التقنية، وهذا ما تفضله منا الجماهير، وهذا ما يميّز لغتنا العربية، ذات الألفاظ القليلة والدلالات الكثيرة.
ولكن يبقى السؤال يراود البعض، كيف أصل إلى هذه النوع من الناس؟ الذين يستخدمون ألفاظا قليلة بمعانٍ كثيرة؟
هي في الأصل مهارة ومَلَكَة عند الأشخاص، تأتي مع كثرة المطالعة، والمعرفة بأدوات وأساليب اللغة، والتمرس شيئا فشيئا.
فالذي يقرأ كثيرا، ويعرف الألفاظ والدلالات ومعاني الكلمات وبدائلها، ويستطيع أن يأتي لمعنى واحد بأكثر من كلمة، فيختار أقلها احتياجا لما قبلها وما بعدها، بحيث تغني كلمة واحدة عن أربع كلمات.. وهكذا.
وهناك من يمتلك هذه المهارة حتى في كلامه العامي وحتى في تشابيهه البسيطة، فهي تعبّر عن ذكاء الشخص وفطنته وحدسه السريع.
وبما أن العلم بالتعلّم والحلم بالتحلّم، فيمكن للشخص أن يتمرس ويتعلم على هذه المهارة مع كثرة القراءة في العبارات القليلة ذات المعاني الكثيرة، وتحليلها ودراسة كيف جاء كاتبها بلفظ بدل آخر، واستخدم جملة مكان أخرى.
فهذه الممارسة تعطيه المزيد من الذخيرة المعرفية التي ستساعده في تكثيف الألفاظ واختصارها بشكل جميل ووافٍ.
جعفر الوردي
مقال رائع جزاك الله خيرا
أعطنا بعض الأمثلة على قصص قصيرة جداً أقل من 140 حرف وبعض المصادر لتعلم هذه المهارة المهمة والحصول على أمثلة ونكون لك من الشاكرين
مقال رائع جداااااااااااااا
جزيت خيرا
1-ألهكم التكاثر حتى زرتم المقابر
2- مِنْ نُطفَةٍ خلقَهُ فَقدَّره ۞ثُمَّ السَّبِيل يسَّرَه ۞ ثُمَّ أمَاتهُ فَأقبرَه
3-عجوز تتمنى تقرأ وتكتب
بدأوا يعلمونها كتابة إسمها كاملاً!
تذكرت أبوها ..بكت!
ثم رمت القلم وقالت :
كيف أكتب إسمي قبل إسم أبوي!
4-عجز أن يكون أنت فشتمك