كواليس تويتر: مدخل لكشف عيوب التغريد
يقول الدكتور عبدالله الغذامي في مقدمة الفصل الثاني من كتابه تأنيث القصيدة والقارئ المختلف:
“النص المختلف هو ذلك الذي يؤسس لدلالات إشكالية، تتفتح على إمكانات مطلقة من التأويل والتفسير. فتحفز الذهن القرائي وتستثيره ليداخل النص ويتحاور معه في مصطرع تأملي يكتشف القارئ فيه أن النص شبكة دلالية متلاحمة من حيث البنية، ومتفتحة من حيث إمكانات الدلالة. وبما أنها كذلك فهي مادة للاختلاف، بمعنى أنها مختلفة عن كل ما هو قبلها، وهي تختلف عما نظنه قد استقر في الذهن عنها.”
ويقول في موضع آخر:
“كنا قديمًا نقول إن (المعنى في بطن الشاعر) غير أن زماننا هذا سرق المعنى من بطن الشاعر و وضعه نارًا حارقة في بطن القارئ. لقد انكسرت مركزية المعنى و مركزية الذات الأولى التي تحتكر المعنى، و صار المعنى مبعثرًا على وجه النص ينتظر قارئًا ما لكي يلتقط مفرداته الأولى و ينظم منها شجرة دلالية.”
بدايةً: كل ما سيكتب هنا نابع من الإيمان بأن الفكرة ملك صاحبها، حتى إذا كتبها صارت ملكًا للآخرين بقبولها للتأويل والإسقاط في ظلها الأول. أي أن نقدي وتحليلي للتغريدات لا يدعي التعرض لنوايا أصحابها؛ إنها مجرد محاولة لقراءة العيوب والأخطاء المضمرة بخطاب تويتر.
ومن هذا المنطلق عشت تجربة مختلفة، حاولت عبرها التغريد خارج السرب وداخله بما يتماشى مع ما كنت أصبو لتجربته. اعتمدت ابتداءً على أن التغريدة تقابل النص، وجربت عندها أن أكون قارئا مختلفا يحاول حسب إمكانياته المتواضعة أن يقرأ ما لم تقله التغريدة صراحة. وقد كانت المهمة شاقة، وتطلبت مني التواجد شبه الدائم ومتابعة فئات مختلفة تماما من حيث البيئة، الثقافة، التعليم، والاهتمامات. كذلك احتجت لعزلة تقارب الشهر والنصف، شبه عزلة بالأصح لأني كنت أتواجد كقارئ صامت يحاول أن يخرج من إطار الصورة ليحكم عليها بموضوعية أكثر. كذلك اضطررت لتجربة بعض مما كان سائداً هناك (فتح حسابات ببعض المواقع وربطها بتويتر، الكتابة بطريقة مختلفة، الريتويت واستخدام الهاش تاغ)
من خلال تجربتي هذه تكشفت لي أشياء كثيرة كان أبرزها التطرف إزاءه والذي يصنفه ومجتمعه على أنه: مثالي جداً أو موبوءاً جداً. هذان التطرفان أجبراني على خلق موقف وسطي، وفرض علي نشر ما تعلمته لعله يفيد أحدهم فيما لو كان مفيدًا. ومن هنا جاءت هذه التدوينات والتي تحاول مواجهة عيوبه بطريقة غير متطرفة.
ومما يستحق التأمل في هذا الموضوع هو كمية التطابق بين تويتر كموقع تدوين مصغر وبين الشعر العربي الذي سحرنا منذ قرون وحق لنا. مكمن الشبه هنا يتضح في كون شروط تحديد الخطاب تنطبق على التغريدة من حيث جماهيريتها والنظرة التقليدية السائدة عنها والتي تعكس رؤيةً مثالية، مما يحتم وجود عيوبٍ نسقية مضمرة بالخطاب عبرها. وهنا تدوينة بها ملخصاً بسيطاً جداً عما أتحدث عنه من الملامح التي تحدد شكل الخطاب القابل للنقد نقداً ثقافياً ولا تغني طبعاً عن قراءة الكتاب.
وقبل الخوض في تفاصيل أكثر، يجدر بي التذكير بمقولة رائجة حول تويتر، مقولة نسقية جاهزة يُواجه بها كل من ينتقد مجتمع تويتر: “منت مجبر تتابع فلان” وهذه الجملة التي تكرر دون التفكير في مضامينها وما تشتمل عليه من أخطاء نسقية، يمكن مواجهتها بالتالي:
- المستخدمون في تويتر غالباً ما يعاملونه بإدمان، مما يعني أنه صار بديلًا عن مجتمعاتهم الأرضية، وهذا بداهة يدل على أن تويتر صار مجتمعاً. وبالنظر لخصائصه فهو بالدرجة الأولى مجتمع متعدد ومنفتح أكثر من واقع غالبية المغردين ونقد ما يحدث فيه هو جزء من نقد المجتمع ومحاولة كشف عيوبه وتشخيصها. وما لم تواجه هذه الأخطاء فستظل تتبعك حتى وإن توقفت عن المتابعة، عبر الريتويت وتداعيات التدوين والمجالس.
- لو تبعنا هذه المقولة فسنجد أنفسنا نتابع أصدقاءنا فقط مما ينقض المقولة القائلة بأنه منبع جيد للتعاطي مع الاختلاف.
لماذا اخترت تويتر كمدخل لفهم عيوب المجتمعات العربية على الشبكات الاجتماعية؟
لأن الشبكات الاجتماعية اليوم أصبحت إحدى أهم وسائل التواصل وتكوين الأفكار، فجميع الإحصائيات العالمية تشير لزيادة في استخدامها وتفعيلها، كذلك زيادة في إنفاق الوقت في استخدامها وتدخلها في تفاصيل كثيرة في حياتناـ كل هذا يشير إلى أنها أصبحت قدراً لا مفر منه، وأنها تعمل بشكل خفي أو معلن في تكوين شخصياتنا ومفاهيمنا حول الحياة، العلاقات، المعرفة، الثقافة، الفن والأدب.
كذلك لو تأملنا بشكل فاحص في الفئة العمرية التي تستخدم تويتر لوجدنا أن ما كنا نظنه مجرد موقع للتعارف، تبادل الصور، الأخبار، والروابط أصبح شريكًا أساسيًا في بناء الجيل القادم وتشكيل مفاهيمه، وإعادة صياغة مفاهيم الجيل الحالي. من هنا كان لابد من دراسة تأثيراتها علينا بشكل فاحص.
أما عن سبب اختيار تويتر لهذه الدراسة البسيطة فلأني مستخدمة له، وكان أكثر الشبكات الاجتماعية التي استخدمتها فترة طويلة. فأردت أن أفهم سبب تعلقي به، وأسباب التغييرات التي حصلت بحياتي معه.مالذي اكتسبته ومالذي أضعته، ولماذا يحصل هذا؟ مالمميز به؟ لماذا مستخدم تويتر متميز عن غيره، أو يظن أنه كذلك؟ لم نرى بين الفترة والأخرى: “يارب ما نشوف مراهقي الفيس بوك هنا”، ”يا رب ما نعاني غزو أطفال المنتديات؟”
والسؤال الذي يعد مفتاحاً للوصول لإجابات هذه الأسئلة هو: لم نجد دوماً إيماناً بأن تويتر منعزل عن سلبيات مجتمع الأرض وكما رأينا قبل قليل منعزل أيضاً عن سلبيات الإنترنت؟
الإجابة كما وجدتها أن طبيعة تويتر كونه منحصر بـ140 حرفاً تجعل إمكانية الاستخدام العبثي له قليلة جداً. إنه لا يوفر مساحة كبيرة كالمنتديات أو الفيسبوك وله أقسام متعددة يبقى النص فيها مدة طويلة حتى يبرد ومن ثم يبدأ التعليق والتفاعل معه وعلى مدار أيام وربما أشهر.
ربما طبيعته هذه حصرته (أقصد في بداية التواجد العربي به) أن يكون موجها للمدونين المتخصصين وغير المتخصصين مما ساهم في إنشاء بيئة مثقفة وواعية لحد كبير، مما أضفى عليه جدية أبعدت الكثير من السلبيات عنه. مع الوقت ومع كثرة التطبيقات المرتبطة به وانتشار الهواتف الذكية، مع الاكتساح الهائل الذي شهدته الشبكات الاجتماعية، ومع الأوضاع السياسية والاقتصادية، أصبح تويتر ”بتاع كله” مما أسقط مزاعم البعض بأن تويتر يوتوبيا الإنترنت، وأنه منقذ الإعلام، وأنه موطن المثقفين والنخب …إلخ والتي للأسف تجذرت بأذهاننا حتى أعمتنا عن الحقيقة.
لكن الواقع يقول أن تويتر قد تم غزوه إبان الثورات العربية (أو قبلها في الحقيقة)، ولنقرأ ما كتبه المدون سلطان العامر حول شخصية البيض التي امتلأت ساحات تويتر بها:
يمكن القول أن البيضة شخصية لم تتلق تعليما عاما محترما يعطيها أبجديات التفكير السليم وأبسط المعلومات العامة عن العالم الذي تعيش فيه، ولا تربية سليمة قائمة على التشارك وتعلمها احترام المختلف والمتفق على حد سواء. خاضعة تماما لمصادر معرفة شبه-حكومية (مجموعة الام بي سي، بشكل خاص). فهي سنية عندما يتعلق الموضوع بالشيعة، وسعودية عندما يتعلق الموضوع بباقي العرب، و”سعودية جدا” عندما يتعلق الأمر بباقي شركاء الوطن. والدين عندها محصور في السياسة، فهي سنية فقط فيما يتعلق بأمور الحكم، أما في المجتمع فهي تنحل إلى: بدوية، حضرية، طرش بحر، خضيرية، قبيلية. وفي الأخلاق والسلوك فتعاني من اغتراب حاد بين ما تفعله وبين ما تقتنع بانه الصواب والفضيلة. وفي الاقتصاد فهي عالة على الحكومة لا تهدف إلا إلى استنزافها أكثر بحيث تريد مكافآت اكثر وإجازات اكثر ولا تسعى لتحقيق أي إنجاز من أجل تحصيل ما تريد سوى التصفيق، ومشغولة حد أذنيها بالاستمتاع بحياتها قدر الإمكان غير آبهة بكل ما حولها، نظريتها العظمى “اللهم نفسي” تبرر وجودها بحجج وقيم وعقائد لا يعبر عنها أبدا وجودها نفسه… باختصار شخصية “منافقة”، لها أكثر من مائة شخصية وشخصية.
فهل حقا أن ما سبق بكل أخطائه منحصر في بيض تويتر (ولنأخذ البيض على أنهم الغزاة بدون تدقيق على التعريف الشائع لهم) أم أن كثيرا منا وممن يظن أنه على درجة عالية من الوعي والاستقلالية الفكرية يملك مثل هذه الأخطاء ويتعايش معها راضيا؟
وقبل الحديث عن عيوبه، سأسرد موقفا حصل قبل مدة في تويتر، وهو موقف دائم التكرار وقد تتذكرون الكثير مثله. حين يسأل سائل ما بتويتر طالبا المساعدة، فلا بد أن يمر سؤاله بفترة ركود يعقبها قول السائل: “ولا أحد يعرف؟” لتنفجر التغريدات المجيبة على سؤاله. هذا الموقف المتكرر يدل بشكل قاطع على الدافع لوجود الكثير منا وبقائه في تويتر والذي يتضح مما أوردناه أنه ليس دافعا عطائيًا تفاعليًا بقدر ما هو دافع نفعي مغرق في النفعية الذاتية. فسبب التفاعل بعد استغراب السائل هو ”الخوف” من الاتهام بالعبثية والجهل واللذان يزعجان مستخدم تويتر الذي يستخدمه لأسباب شخصية نفعية بحتة.
هذا السبب في الفشل التويتري يتضح جليا في موقفين:
- الأول: أن المدونين الجادين هم الأقل في استخدام تويتر. مما يدل على معرفتهم بانحصار تأثيره وربما سطحيته في كثير من الأحيان؛ فالإيجاز الذي ”يعانيه” مستخدمي تويتر يفقد المعلومة كثيرا من قيمتها. حتى أن كثيرا من التدوينات تكون امتدادًا لهاش تاغ أو نقاش تويتري، مما يدل على أن بيئة تويتر لا تسمح بتعميق النقاش ليس من ناحية تقنية تتعلق بطبيعة الموقع، بل من ناحية نفسية اجتماعية تتعلق بالتركيبة الخاصة بمجتمع تويتر ووضعية التلقي فيه.
- الثاني: عدم فاعلية هذا الاستخدام إلا على نواح بسيطة لا تتناسب مع حجم ما يشاع من مدائح حول تأثير تويتر. بدليل الفرح بإنجاز الآخر. أقصد مشاعر الفرح التي تظهر على تويتر والتي تتبنى نجاح الآخر الذي انطلق من الشبكات الاجتماعية؛ فمثلا هي تبرر نجاح الثورة المصرية باستخدام تويتر في تلاقح الأفكار المحرضة والذي تحول إبان الثورة لنقل الحدث. هذا الفرح الذي يتجاهل أن النجاح لم يحدث بسبب من تويتر بل بسبب فاعلية استخدامه والتي افتقر لها الكثير من مستخدميه. ولكم أن تقارنوا مثلا بين عدد الذين يربطون نجاح الثورة بتويتر من القاعدين والفاعلين.
إذًا، الاستخدام الحالي لتويتر يعتبر في غالبه مجرد امتداد للحياة الملموسة كرد فعل عليها وليس كفعل أولي يهدف للتأثير والتغيير (كما يتم الزعم دوما).
ملاحظات على هامش الموضوع:
- هذه التدوينات بالأصل كانت بحثًا دراسيًا تقنيًا، تطور وصار إلى ما صار إليه. فشكرا لكل الذين ساهموا في صناعة هذه الأفكار بدءا من مجتمع تويتر الحيوي وحتى مجتمع الأرض، شكرا للمهندسة وعد، للصديقات: سمر، فوز، حنان،عالية، وللمدون عقبة. وللأستاذة مروة جادالله التي تعلمنا معها المنهجية العلمية في الكتابة. وشكرا لكل الذين صبروا على تسويفي، وعسى في جهدي المتواضع ما يعوض صبرهم.
- العيوب الواردة هنا ستكون مزيجا من الآراء والتجارب الخاصة. كذلك ستنصب أساسا على المجتمع السعودي؛ كون أغلب من تابعتهم كانوا سعوديين.
- من الصعب إيراد التغريدات التي قالت بعض ما سأعلق عليه، ولهذا سأكتفي بإيراد المعنى.
- كثير من النقاط تحتاج لإحصائيات تثبتها، لكني سأكتفي بوجودها ومعايشتنا لها كسبب كفيل بدراستها وفهمها.